الجمعة، 10 أبريل 2009

الشــغــل
تقديم:
إن الباحثين في مسألة الشغل يتحدثون تارة عن الشغل وتارة أخرى عن العمل فهل يخفي الفرق في التسمية فرقا في مضمون المفهومين؟ إن تحليلا أوليا يظهر أنه ليس هنالك أي فرق جوهري بين المفهومين "فالشغل" emploi و"العمل" travail يستخدمان على التتالي في نفس السياق وبنفس المعنى، إلا أنه يمكن الإشارة مع ذلك إلى أن كلمة شغل تستخدم بشكل واسع حين يتعلق الأمر بالنشاط الذي يقوم به الإنسان في المجتمعات المعاصرة مقابل أجر يتقاضاه عن ذلك. أما كلمة عمل فإنها تشير إضافة إلى المعنى السابق، إلى كل نشاط إنساني يدويا كان أو فكريا، مأجورا كان أو بدون مقابل مادي. وهنا يمكن أن نقول بأن الأم التي تربي أبناءها بنفسها تنجز عملا، أما المربية التي تحترف مهنة الصباغة كمورد للرزق فإنها تمارس شغلا. وكلاهما يشتغل في الواقع، إلا أن محفزات ودوافع كل منهما قد تكون مختلفة. فالشغل، بصفة عامة، نشاط يمنح من قبل المشغل لشخص مستعد لتقديم خدماته مقابل أجر معين. أما العمل فهو نشاط منتج، ولكنه ليس بالضرورة مؤدى عنه. كذلك يمكن أن نقيم تمييزا بين الشغل واللاشغل. فالشغل هو الوقت الذي يقضيه الإنسان في إنجاز عمل يتقاضى عليه أجرا أو يكون مصدر رزقه. أما اللاشغل فهو الوقت الذي يخصصه الإنسان لنفسه وأسرته وهواياته، وهو ما يدعى أيضا بالوقت الثالث أو الوقت الحر، غير أن الإنسان بصفة عامة، لا يحصل على الوقت الحر إلا بعد أن يكون قد وفى بتعهداته في العمل، أي بعد أن يكون قد تمكن من الحصول على الموارد الذي تمكنه من العيش. وبذلك يشكل الشغل أحد العوامل الأساسية التي تمكن الإنسان من تحقيق استقلاليته وتخلصه من ضغوط حاجياته البيولوجية الأولية. وبفعل تطور الحضارة الإنسانية وارتفاع مستوى معيشة الأفراد في بعض المجتمعات المعاصرة، أصبح وقت الفراغ نوعا من المنتوج الذي يرغب المأجورون في الحصول عليه بشكل متزايد.
و مهما يكن، فالشغل من الوظائف الأساسية التي تميز الإنسان عن الحيوان. فكل ما نستهلكه اليوم هو نتاج العمل الإنساني سواء تعلق الأمر بالحبوب أو الخضراوات أو الفواكه أو بالحيوانات الداجنة... إن حاجيات الإنسان ليست ذات طبيعة غذائية فقط، فله حاجيات أخرى ذات طبيعة ثقافية كما هو الأمر بالنسبة للملابس ومختلف الأجهزة والتجهيزات التي يستخدمها في حياته اليومية. فنحن نعمل من أجل تحويل الأعشاب المتوحشة إلى حبوب (قمح، ذرة، شعير) والثمار غير القابلة للاستهلاك إلى الفواكه، والحديد إلى سيارات وطائرات…إلخ. فالنشاط الاقتصادي هو كل نشاط يهدف إلى تحويل الطبيعة إلى مواد قابلة للاستهلاك من طرف الإنسان. هكذا يظهر أن الإنسان مضطر للعمل من أجل ترويض الطبيعة واستغلال خيراتها بشكل يناسبه. ولكن إذا اكتفى الإنسان بقوة يديه فقط لإنجاز هذا العمل، فإنه لن يحقق تقدما كبيرا، ومن هنا ضرورة استعانته بالتقنيات وبتقسيم العمل. إن الاختراعات التقنية وتقسيم العمل هما السبيل الحقيقي لتطور الإنسانية. فالتحديات الكبرى التي فرضتها الطبيعة على الإنسان هي التي دفعته باستمرار إلى التفكير في أفضل السبل لمقاومتها أو إخضاعها. وهكذا، فإن كل اختراع جديد هو انتصار حقيقي على الطبيعة، وتقدم في مجال السيطرة عليها وترويضها، وفي الوقت نفسه فإن الإبداع العلمي والاختراعات التقنية وتقسيم العمل هي التي أسهمت بشكل فعال في تقدم الإنسان. لكن هذه الاختراعات وذاك التقسيم جعلوا من الشغل استعبادا، ومن الآلة ضرورة حتمية قصوى.
· فلماذا يعتبر الشغل فاعلية إنسانية بامتياز؟ ولماذا يحتاج الإنسان إليه؟
· وما علاقة تقسيم الشغل بالتنظيم المجتمعي؟ وكيف يعمل هذا التقسيم على تحديد صورة الفرد داخل المجتمع؟
· وهل يمثل الشغل استعبادا للإنسان أم تحررا له؟

الشغل خاصية إنسانية صرف
بأيّ معنى يكون العمل صفة خاصّة بالإنسان؟
كانت نظرة الفلسفة اليونانية للشغل (الشغل اليدوي) نظرة احتقار واشمئزاز. وقد ظلت هذه النظرة الفلسفية السلبية للعمل حاضرة عند كل الفلاسفة الذين أتوا بعد أرسطو إلى حدود القرن الثامن عشر. ولم تتغير الوضعية بشكل جذري إلا مع هيجل الذي أعطى لمفهوم "العمل" معنى بعيدا. ففي حديثه عن "جدلية السيد والعبد"، عرف هيجل العمل باعتباره إنتاجا للإنسان بواسطة الإنسان. إن العمل هو أداة التحرير الوحيدة للإنسان. فعمل العبد هو الذي يحرره من سيطرة الطبيعة كما يحرره من سيطرة السيد فيما بعد. إن علاقات الإنسان بالطبيعة ليست علاقات معرفية فقط، ولكنها أيضا علاقات تحويل وتغيير متبادلة، فالعمل في نهاية المطاف يشتغل لصالح السيد، وهذا يعني أن العمل نشاط اجتماعي ينجزه الناس بعضهم لصالح بعض من أجل التلبية المتبادلة لحاجياتهم، إن العمل يكون بذلك اللحمة الحقيقية للعلاقات الاجتماعية.
نجد مثل هذه الفكرة عند سيرج موسكوفيتشي. فهو يعتبر أن الشغل فعل إنساني أساسي يخلق نوعين من الآثار: منتوجات وإبداعات. المنتوجات تساهم في الحفاظ على البقاء واستمرارية النوع والاستجابة للحاجيات، بينما تعمل الإبداعات على التأثير في الإنسان نفسه، وتدفعه باتجاه التفوق على الطبيعة.
من جهته، يقوم ماركس بالتمييز بين العمل الإنساني والأنشطة التي تقوم بها بعض الكائنات الأخرى (بعض الحشرات والطيور)، ويستخلص أن العمل هو أساسا فعل طرفاه الأساسيان هما الإنسان والطبيعة. ويلعب الإنسان في مواجهة الطبيعة دور قوة طبيعية، فالقوة التي يتوفر عليها الإنسان والكامنة في يديه ورجليه ورأسه تستخدم بشكل إيجابي من أجل تحقيق أهدافه، وفي نفس الوقت يؤثر بعمله هذا في الطبيعة الخارجية ويحولها. وبتحويل الطبيعة يحول طبيعته الخاصة، وينمي الملكات والقدرات الراقدة فيه. إن العمل شيء ينتمي إلى المجال الإنساني فقط، صحيح إن العنكبوت يقوم بعمليات تشبه تلك التي يقوم بها صانع الزرابي، كما أن النحلة تهش أكثر من مهندس بما تقوم به، إلا أن ما يميز ما يقوم به أسوأ مهندس وأمهر نحلة، هو أن المهندس ينجز في رأسه ما سيقوم به قبل تنفيذه.
عمل الحيوان
عمل الإنسان
منتج: ينتج المسكن
منتج: ينتج عالما من الأشياء
غريزي، فطري:
- تمليه الحاجة الجسمية والمباشرة
- اضطراري بالضرورة
عقلي، مفكر فيه:
- لا يخضع بالضرورة للحاجة الجسمية والمباشرة
- إرادي
إنتاج من صنف واحد ومتكرر
إنتاج متنوع ومختلف ومتعدد
امتداد لجسمه
حر ومستقل عنه
إن النتيجة المحصل عليها بواسطة عمل الإنسان توجد بشكل قبلي في مخيلته. إن العمل عند ماركس نشاط واع، متأمل ومقصود، فالإنسان يتمثل ويتخيل في البداية ما ينوي القيام به، وقدرته هاته على تمثل أهدافه وتنظيم حركاته وأعماله طبقا لهذه الأهداف تميز عمله عن الأنشطة الغريزية التي تقوم بها الحيوانات. وما دام عمل الإنسان ليس شيئا غريزيا فإنه يرتكز على الاهتمام والإرادة. ويركز ماركس بقوة على هذه النقطة، فالعمل في نظره ليس عفويا ولا طبيعيا، وهو لا يتطلب مجهودات عضلية فقط من أجل تحويل الطبيعة، ولكن استعدادا سيكولوجيا أيضا، حيث يقتضي الحفاظ على الإرادة الإنسانية في مستوى محدد من التوتر والانفعال المستمر. وحين يعمل الإنسان فإنه يحقق ويخرج ويموضع قدراته الخاصة، ومن ثمة فإن الشغل ليس فقط تحويلا للطبيعة ولكن أيضا تحويلا لطبيعة الإنسان نفسه.
يتحدث ماركس عن الشغل بإيجابية على ماهية الإنسان في ظل سيادة الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، أما في النظام الرأسمالي حيث تسود الملكية الفردية وحيث نظام السوق، يصبح كل شيء فيه قابل للبيع، يصبح العامل مضطرا لبيع قوته من أجل قوته، فاضطرار الإنسان إلى عرض قوته للعمل وإخضاعها للنظام السوق معناه التنازل التدريجي عن بعض مقومات كرامته مما يعني بداية التعايش مع تجربة الفقر والتهميش .
يرفض جيلبير هوتوا هذا التصور حول الشغل في المجتمعات الحديثة، ويؤكد أن الشغل، في مجتمعات كل شيء فيها يباع ويشترى"، هو القيمة المؤسسة لكل القيم:
· السعادة: العمل في المجالات الحببة عند العامل يحقق له هذه القيمة. كما يوفر أجرة أي كمية معينة من وسائل العيش تضمن الكرامة وبالتالي "السعادة المادية".
· الهوية: العمل إثبات للذات الفردية والجماعية من خلال النجاحات
· المواطنة: يكفل العمل هو الشرط لمزاولة أغلب الحقوق الاجتماعية مثل الزواج
· السلطة: يمنح العمل لصاحبه مكانة وحضوة اجتماعية.
· الحرية: العمل تحرر من التبعية للآخرين
· اللحمة الاجتماعية: داخل مؤسسات العمل تنسج علاقات اجتماعية مترابطة ومتلاحمة تكاد تشبه العلاقات العائلية.
يخلص هوتوا إلى "إن الشغل هو الذي يضفي المعنى على الحياة الفردية والجماعية".

تــقــســيـم العــمــل
إذا كان العمل خاصية إنسانية، فمن المؤكد أن هذه الخاصية لا تتم بشكل فردي بل بشكل جماعي في إطار تقسيم للعمل الاجتماعي، بدأ مع تطور الأشكال الاجتماعية البدائية، وأخذ يتعقد مع مرور الزمن. فما علاقة تقسيم الشغل بالتنظيم المجتمعي؟ وكيف يعمل على تحديد صورة الفرد في المجتمع؟
يرجع مفهوم تقسيم العمل إلى أفلاطون وأرسطو. لقد كانا ينظران الى تقسيم العمل، لا على انه وسيلة من اجل زيادة الإنتاج، وإنما كنمو لفعالية الفرد بالقدر الذي يتخصص فيه الفرد فيما يناسب طبيعته. فتقسيم العمل يتوقف على طبيعة كل فرد، ما يعنى انه تقسيم طبيعي تحكمه طبيعة كل فرد.
يبحث أفلاطون عن أصل المدينة، ويرد ذلك إلى تعدد حاجيات الإنسان التي لا يمكن أن يحققها لوحده فيفرض عليه العيش داخل جماعة من البشر. "فيعمل كل من هؤلاء (…) ما يلزم للجميع من منتوجه، فيعد الفلاح مثلا وهو أحدهم، ما يحتاج إليه أربعة أشخاص من الطعام، فيقضي في إعداد طعامهم أربعة أضعاف الوقت اللازم له لإعداد طعامه، ثم يقاسم إخوانه الثلاثة منتوجه، أم أنه يهملهم ويعمل ما يسد حاجته، فيقضي ربع وقته في إعداد ربع مقدار الطعام، ويقضي الثلاثة الأرباع الباقية من وقته في إعداد مسكنه وكسوته وحذائه، ولا يتعب نفسه في مبادلة إخوانه الحاجات بل يعمل ما يحتاج إليه بذاته لذاته؟". يقوم أفلاطون بالتعريف بالحاجيات الأساسية للإنسان. ويحددها في ثلاث حاجيات هي التغذية والسكن والملابس، ثم يضيف الأحذية. ومن أجل تلبية هذه الحاجيات على الإنسان أن يقوم بثلاث أنشطة مختلفة: تحضير الغذاء، وصناعة الملابس وبناء السكن. وكي يتم تحقيق ذلك يرى أفلاطون أن هنالك سبيلان:
· السبيل الأول: هو أن يقوم كل فرد بإنجاز هذه الأنشطة الثلاثة بالتتابع، فيقسم وقته بينها، وهذا ما يحصل فعلا في بعض المجتمعات "البدائية" حيث يقوم الإنسان بكل أنواع الأنشطة.
· السبيل الثاني: وهو المتبع في المجتمعات المتطورة ويقوم على تخصص كل فرد من أفراد المجتمع في نشاط من هذه الأنشطة، حيث يخصص لها كامل وقته وهذا هو ما يسمى بالتقسيم الاجتماعي للعمل، وهو الرأي الذي يميل إليه.
وتقسيم العمل عند أفلاطون مسألة ضرورية لثلاثة أسباب على الأقل:
1. الطبيعة لم تمنح جميع الناس نفس المهارات والكفاءات، وهذا ما يجعل الناس مكملين لبعضهم البعض.
2. الإنسان يصبح ماهرا في عمل ما إذا كان ينجزه لوحده فقط. فالتخصص يؤدي إلى المهارة وتحسين الإنتاج.
3. التخصص يجنب إضاعة الوقت عند الانتقال من عمل لآخر، وهكذا فإن كل مدينة حسب أفلاطون، يجب أن تتوفر على الأقل على ثلاثة أو أربعة أشخاص: مزارع، بناء، حائك، وإسكافي (صانع أحذية). والواقع أنه يجب إضافة تخصصات أخرى لأن المزارع لن يستطيع صنع محراثه بنفسه كما أن الحائك لن يتمكن من صنع أدوات عمله بنفسه أيضا، ومن هنا ضرورة إضافة الحداد والنجار…إلخ.
ويستفيد الجميع من تقسيم العمل فالمستعمل سيحصل على منتوج من نوعية جيدة، والمنتج سيكون مستريحا في عمله لأنه سينجز نوعا واحدا من العمل هو ذاك الذي يملك أفضل المهارات فيه.
أما أرسطو فينطلق، كأستاذه أفلاطون، من المدينة كأعلى وحدة اجتماعية وسياسية، ويرى أن وظيفتها هي توفير أسباب السعادة لأعضائها. وهذه الأسباب ذات طبيعة مادية ومعنوية، فيقوم العبيد بتحصيل الثروة الضرورية لاستمرار الأسرة، ويجعلهم أحد المكونات الأساسية لهذه الأخيرة. ويعتبر أرسطو نظام الرق نظاما طبيعيا، ويصف العبد بكونه آلة للحياة "لأن وجوده ضروري لإنجاز الأعمال الآلية المنافية لكرامة المواطن الحر. والعبد آلة "منزلية" أيضا لأنه يساعد على تدبير الحياة داخل المنزل.
من هو العبد بالنسبة لأرسطو؟ الإجابة هي أن الطبيعة هي التي تعينه، أي جملة العوامل الوراثية والبيئية والاجتماعية، والاختلاف بين الأعلى والأدنى أو بين الممتاز والرديء أمر ملاحظ، حسب أرسطو، في كل مظاهر الطبيعة: بين الإنسان والحيوان، بين الذكر والأنثى…إلخ. وكلما وجد هذا الاختلاف كان من الأفضل للجميع أن يسيطر الأقوى على الأضعف. إن الطبيعة إذن تميل إلى إيجاد التمايز بين البشر فتجعل بعضهم قليل الذكاء أقوياء البنية، وبعضهم أكفاء للحياة السياسية، وينتج عن ذلك أن البشر صنفان: صنف حر بالطبيعة وصنف عبد بالطبيعة أيضا. وفي ذلك يقول أرسطو: "إن شعوب الشمال الجليدي وأوروبا شجعان، لهذا لا يكدر عليهم أحدهم صفو حريتهم، ولكنهم عاطلون من الذكاء والمهارة والأنظمة السياسية الصالحة، لهذا فهم عاجزون عن التسلط على جيرانهم، أما الشرقيون فيمتازون بالذكاء والمهارة ولكنهم خلو من الشجاعة، ولهذا هم مغلوبون ومستعبدون إلى الأبد. وأما الشعب اليوناني فيجمع بين الميزتين: الشجاعة والذكاء. كما أن بلده متوسط الموقع، لهذا هو يحتفظ بالحرية ولو أتيحت له الفرصة لتسلط على الجميع". ومن جهة أخرى يرى أرسطو أن الأسرة بحاجة للثورة، ويمكن تحصيل الثروة بطريقتين:
· الطريقة الأولى: طبيعية وتكمن في جمع النتاج الطبيعي اللازم للحياة، وهو الأمر الذي يتم بدوره حسب ثلاثة أشكال: تربية الماشية والقنص والزراعة.
· والطريقة الثانية يسميها صناعية وتتكون من ثلاثة أنواع: التجارة البرية والبحرية، والقرض، والأجر. ويرى أن مبادلة المواد والمنتوجات تفرض على المجتمعات حين تكون هنالك قلة في بعض المواد التي تضطر لاستيرادها من الخارج، وهذا هو الأمر الذي يجعل الحاجة إلى النقود ضرورية، فهي رمز يستخدم في المبادلة. إلا أن هنالك خطرا يهدد المجتمعات بفعل استعمالها للنقود، حيث تصبح هاته وسيلة في حد ذاتها، وهو ما يؤدي بدوره إلى أن يصبح الإنتاج غاية في ذاته، لا وسيلة لإرضاء الحاجات الطبيعية، الشيء الذي يقود حتما إلى اضطراب الحياة الاجتماعية بفعل تراجع الفضيلة إلى المراتب الأخيرة وطغيان المصالح المادية.
إن أرسطو لا يعتبر العمل، والعمل اليدوي على وجه الخصوص، قيمة اجتماعية، فهو إكراه طبيعي. فللإنسان في الحياة وظيفة أساسية هي تحصيل الفضيلة، ويتم ذلك عن طريق البحث الفلسفي والاشتغال بالسياسة بأشمل معانيها، غير أن الفيلسوف والمواطن الحر بصفة عامة في حاجة إلى تلبية حاجياته الأساسية من تغذية وملبس ومسكن، ولو قام بنفسه بتحصيل ذلك، لما بقي له من الوقت ما يكفيه لممارسة وظيفته النبيلة: السياسة. من هنا ضرورة أن توجد طبقة من البشر تختص في هذه الأعمال، إلا أن هذه الطبقة من البشر لا يجب أن تكون من بين المواطنين، فيأتي دور العبيد لينجزوا الأعمال المنزلية وكل الأعمال المقترحة ويتحملوا عن المواطنين الأحرار أعباء تحصيل الرزق. فلا يجوز لمن يعملون لكسب قوتهم وقوت غيرهم أن يحسبوا في عداد المواطنين. فالمواطنون، حسب أرسطو، لا يحيون حياة أرباب الآلات والحرف، لأن مثل هذه الحياة تحط من شرف الإنسان، ولا تتفق مع الفضيلة. كما لا يجوز للمواطنين أن يشتغلوا بالزراعة، لأنهم في حاجة إلى فراغ؛ وإن كان من حقهم أن يملكوا الأرض الزراعية، أما فلاحة الأرض فتترك للعبيد من جنس آخر.
هنالك فرق كبير بين ما جاءت به الفلسفة اليونانية حول تقسيم العمل وما يدافع عنه اليوم رجال الاقتصاد والاجتماع. فأفلاطون وأرسطو لا يعيران أهمية لارتفاع الإنتاج باعتباره أحد النتائج المباشرة المترتبة عن تقسيم العمل. لذلك شاع مفهوم جديد لتقسيم العمل ابتداءا من القرن 18م، فادم سميث يعتبر أن تقسيم العمل هو منهج تولد بفعل تخصص كل فرد في مرحلة معينة أو جزء محدد من العملية الإنتاجية بدل القيام بكل العملية الإنتاجية. إن تقسيم العمل يؤدي ثلاث وظائف كبرى:
مضاعفة قدرة كل عامل .
اقتصاد واختصار الزمن.
اختراع الآلات والتي تسمح لشخص واحد القيام بعدة مهام.
تساهم هذه العوامل في زيادة إنتاج الخيرات، وتحسين نوعية الإنتاج، فعندما يتخصص العامل في أداء مهمة بسيطة يكتسب قدرة لا يمكن لغير المتخصص اكتسابها حتى لو كان طبيعيا يتمتع بمواهب عالية، لان الاختلاف في المواهب الطبيعية بين الأفراد هو اقل مما هو بين أشخاص يمارسون مهنا مختلفة. ومع أن ادم سميت أشار بوضوح إلى سلبيات تقسيم العمل وتخصص العامل في جزء بسيط من العملية الإنتاجية، والذي يقود إلى الرتابة والتشويه المعنوي والتأثير السلبي على مستوى الذكاء ، حيث يصير أداء العامل مشابها لأداء الآلة، إلا أنه ينتهي إلى أن تقسيم العمل هو نتيجة للتبادل ، وليس سبب التبادل. التبادل هو الذي فرض تقسيم العمل. فالسوق، وليس الطبيعة، هو الذي يحدد كما يحد من تقسيم العمل كما أن تراكم الرأسمال هو شرط ضرورى لتقسيم العمل.
تمت إعادة صياغة هذه النظرية من قبل دوركهايم الذي تساءل عن خصوصية المجتمعات الصناعية بالنسبة للمجتمعات الأخرى. وسّع دوركهايم المصطلح ليشمل كلّ أشكال التخصّص في شبكة الوظائف الاجتماعيّة. وبهذا مدّ معناه وحقله الدلاليّ إلى ما وراء الحيّز الاقتصاديّ البحت. وقد رأى أن أشكال تقسيم العمل ترتبط وثيقاً بأنماط التنظيم الاجتماعيّ، أو بما أسماه "التضامن"،تحدّث عن نوعين متعارضين من التضامن:
"التضامن الآليّ" المستند إلى تقسيم بسيط للعمل كالذي تعرفه المجتمعات الأقلّ تقدّماً، وهو ما يتبدّى، في صورة خاصّة، على هيئة روابط أهليّة ودمويّة ودينيّة وعصبية
و«التضامن العضويّ» الذي يسود المجتمعات الصناعيّة والمتقدّمة، ويرتكز حكماً على الفرديّة وروابط الاعتماد والتبادل التي يخلقها تمايُز وظيفيّ معقّد تنخرط فيه أعداد ضخمة من المؤسّسات.
تتصف مجتمعات التضامن الميكانيكى (الآلي) بحجم وكثافة ضعيفة، وتنظيم اجتماعي قليل الاختلاف، وقانون قمعى، ووعى جماعى يدمج الفرد جدا في المجتمع. بينما مجتمعات التضامن العضوى تتصف بحجم وكثافة عالية، ووظائف اجتماعية مختلفة جدا، وقانون تعاونى، ثم تحرر فردي.

ولم يفتْ إميل دوركهايم الإصرار على أهميّة المؤسّسات والشركات و «الروابط المهنيّة» في التوسّط بين الفرد والدولة، كما في خلق أنماط التنظيم الاقتصاديّ والأخلاقيّ التي يتطلّبها تقسيم عمل معقّد تقنيّاً واجتماعيّاً.
إن تقسيم العمل، حسب دوركهايم يؤدي إلى:
1. تطوير آليّات "التضامن العضويّ" الذي يتسبّب به العمل على حساب «التضامن الآليّ» الناجم عن علاقات القرابة والجيرة والولاءات الموروثة أو الخامّ.
2. أن المجتمع الذي يقوم على المؤسّسات وعملها هو الذي يؤدّي إلى التراكم كبديل للتبديد (تبديد طاقة الأفراد الذي تكمن أصوله في البداوة وطرق الحياة الأخرى التي لم تمسسها يد الحداثة الرأسماليّة إلاّ قليلاً وفي صورة برانيّة).
3. نشأة تقاليد مهنيّة، أو سلوكيّة، والى الافتخار الذاتيّ لدى الأفراد بالانتماء إلى هذه المهن وطرائقها والتمسّك بها والدفاع عنها.
4. البيروقراطية لأنها تعتمد أساسا عليه كمبدأ.
من جهته، يتناول جورج فريدمان موضوع تقسيم الشغل في علاقته بنظام الآلية، ويؤكد أن تعويض الآلة للعامل في أدى إلى تقليص مساهمة الإنسان في عملية الإنتاج بحيث بدأ ذكاء العامل ينفصل عن عمله. فالآلة تتكفل بالعمليات التطبيقية في معظمها، بينما يتكفل العامل بالتخيل والتصور والتخطيط وحتى العمل أيضا، أي أن العامل منقسم بين عمليات فكرية كثيرة وعمليات عضلية قليلة. إنه "سيد الآلة"، وخادمها في الوقت نفسه، "وهو مكره على المشاركة في عمليات فارغة من كل قيمة فكرية، وهي تفرض عليه بالمقابل ضغطا عصبيا... وتجعله... منشطرا بين العمل والتفكير". إن تقسيم العمل وفق نظام الآلية يحتوي على سلبيات، أهمها، أنه يعرض العامل إلى استلاب ذهني، وإلى تدهور نفسي، بل واستلاب اقتصادي من جراء البطالة التي تكون عادة نتيجة حتمية لتعميم الآلية وتطورها. كما أن بعض المصالح الفردية قد تؤدي إلى تعميق القطيعة بين العمال ورؤسائهم مما يسبب تدهور العلاقات الاجتماعية.
فهل يحرر العمل الإنسان أم يستلبه؟

الشغل بين الحرية والاستلاب
يرى سارتر أن تقسيم الشغل على الطريقة التايلورية أدى إلى استلاب الإنسان. فمن المعروف أن النزعة التايلورية ترى أن المردودية في الاقتصاد لا تقوم إلا على الزيادة في الإنتاجية بأقل من الجهد والتكاليف، وفي أسرع وقت ممكن. ومن ثمة يكون العمل المتسلسل القائم على نظام الآلية النموذج المثالي لتحقيق الأهداف الاقتصادية، لكن هذا ـ في اعتقاد سارترـ لا يمنع العامل من التحرر من أشكال الاستلاب من خلال وعي الاستعباد. وهنا نقترب مع سارتر من جدلية العبد والسيد عند هيجل [1]. إن جدلية العبد والسيد لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا تصور العامل الحركة البسيطة التي يقوم بها في بعدها الوظيفي، أي في تكاملها مع الحركات التي يقوم بها العمال الآخرون؛ الأمر الذي يدفع بهم إلى أن يتمثلوا أنفسهم كما لو كانوا ذاتا واحدة، ومن ثمة يدرك العامل أنه لا يمكنه أن يحقق ذاته بمعزل عن الآخرين. وعلى العامل في ذات الوقت أن يتمثل فرديته كذات يجب بناؤها من الداخل من خلال عملية التكوين المستمر التي ستمكنه من مواكبة تطورات نظام الآلية.
غير أن نيتشه يعترض على كل الخطابات التمجيدية للشغل، ويؤكد "أن الشغل يستهلك قدرا هائلا من القوة العصبية التي يصرفها عن التفكير والتأمل، والحلم، والغيرة، عن الحب والكراهية... ويقد م باستمرار هدفا وضيعا يؤمن إشباعات سهلة و منتظمة". إن الشغل، بهذا المعنى يؤدي إلى عرقلة تطور العقل والرغبات على المستوى الفردي، و يمكن المجتمع من تحقيق المزيد من الأمن والاستقرار لأن الكد والتعب لا يسمحان بالتطور والانطلاق.
أما ماركس فيرى أن العمل تحول من قوة محررة للإنسان إلى نشاط مستلب في ظروف نمط الإنتاج الرأسمالي. ويقصد ماركس بمفهوم الاستلاب [2] التشويه العميق الذي يلحق العمل داخل نمط الإنتاج الرأسمالي. ففي ظل هذا النظام يصبح العامل مستغلا، ولأنه يشعر بذلك فإن العمل يتوقف عن أن يكون أحد أسباب ومظاهر وجوده (أي الإنسان) ليتحول إلى مجرد وسيلة عيش. إن العمل في ظل الظروف الرأسمالية ليس تأكيدا للكائن العامل ولكنه نفي له. ويتجسد الاستلاب في علاقة الشغل من خلال تجريد العامل من نتاج عمله الذي ليس بإمكانه مراقبته، ليصبح المنتوج، وهو التجسيد لعمل العامل، بمثابة قوة معادية تسيطر تماما على العامل باعتبار أن هذا المنتوج أصبح ملك شخص آخر هو الرأسمالي الذي باع له العامل قوة عمله، فكأن العامل في هذه العملية قد فقد حقيقته. إلا أن الاستلاب لا يهم منتوج العمل فحسب بل يهيمن على كل مراحل العمل. فالعامل ليس حر أثناء القيام بالعمل. إنه مقيد بسلوك محدد وبنشاط بدني مرسوم مسبقا، الأمر الذي يعطيه الانطباع بأنه قد انفصل عن ذاته، فعمله ليس اختياريا. إنه عمل مجبر. فهو ليس تلبية لحاجة في حد ذاته، ولكنه وسيلة لتلبية حاجيات خارج العمل، وباختصار فاستلاب العامل يرجع بالأساس لكونه يشتغل فقط ليستمر حيا. يقول ماركس وإنجلز في "بيان الحزب الشيوعي: (يعبر عن اغتراب العامل في الأشياء التي ينتجها... كالتالي:"كلما ازداد العامل إنتاجا، قل ما يتاح له للاستهلاك؛ وكلما ازدادت القيمة التي ينتجها، أصبح هو أقل قيمة؛ وكلما ازداد إنتاجه تجويدا، أصبح هو أقل تهذيبا وأكثر تشوها؛ وكلما ازداد المنتج حضارة، ازدادت همجية العامل؛ وكلما ازدادت قوة العمل أصبح العامل أكثر ضعفا؛ وكلما أظهر العامل ذكاء، انحدر في الذكاء وأصبح عبدا للطبيعة.").
[1] - يبدو للوهلة الأولى أن العبد يوجد في وضعية دونية، إلا أن هيجل يرى أنه بفضل عمله سيكون قويا ومتفوقا على سيده، وسيرتقي بذلك إلى درجة الإنسانية، وسيحصل تحول كبير على الوضعية الأولى للسيد والعبد، حيث سيصبح العبد سيد السيد. لماذا؟ لأن العبد لم يضعف أمام الخوف من الموت. إنه في هذا المستوى يتساوى مع الحيوان، الذي لا يتردد في المخاطرة بحياته من أجل حاجة حيوية، إلا أن قلق الموت الذي يواجهه العبد بتفوق يمنحه قيمة أساسية وهي تجاوز القلق وانتزاع الاعتراف من طرف الآخر. وخلافا لما يمكن أن نتوقعه، يضيف هيجل، فإن السيد في علاقته مع العبد لا يشعر بالرضى عن وضعه، لأن الاعتراف بإنسانيته يأتي من طرف شخص لا يعترف هو بإنسانيته. إضافة إلى ذلك فإن السيد يكتفي بالاستهلاك وبالتالي يقضي على نتيجة عمل العبد. أما العبد فعلى العكس، يجعله تحكمه في الأشياء مساهما في الخلق، ويتمكن بذلك من السيطرة على الطبيعة وأنسنتها وذلك عن طريق العمل، ومن ثمة ينفصل نهائيا عن العالم الحيواني ويرتقي إلى درجة الوجود الإنساني الحقيقي. ويضيف هيجل بأن العبد يضع بصمته الشخصية على الأشياء التي يصنعها وهنا يكمن الفرق بين الإنسان والحيوان. وهكذا يتمكن العبد بفضل العمل من تغيير الطبيعة الخارجية ومن تغيير طبيعته أيضا. إنه يتجاوز درجة الحيوانية ليصبح إنسانا، ويتأكد بذلك أن الإنسان لا يتوفر على طبيعة معطاة بشكل نهائي ثابت وقار. إن طبيعة الإنسان عبارة عن صيرورة متطورة، تتحول باستمرار بتحويل الإنسان للطبيعة. ويتأكد من خلال ذلك أيضا أن الوجود الحقيقي للإنسان هو الوجود التاريخي، وبأن الطبيعة الحقيقية للإنسان هي الثقافة، أي قدرته على خلق طبيعة ثانية داخل الطبيعة، إن الإنسان هو ما يفعل في الطبيعة وما يفعل بذاته. ويتبين إذن من خلال عرض جدلية العبد والسيد كما أوضحها هيجل أن العمل هو أداة التحرير الوحيدة للإنسان. فعمل العبد هو الذي يحرره من سيطرة الطبيعة كما يحرره من سيطرة السيد فيما بعد، إن علاقات الإنسان بالطبيعة ليست علاقات معرفية فقط، ولكنها أيضا وقبل كل شيء علاقات تحويل وتغيير متبادلة، فالعمل في نهاية يشتغل لصالح السيد، وهذا يعني أن العمل نشاط اجتماعي ينجزه الناس بعضهم لصالح بعض من أجل التلبية المتبادلة لحاجياتهم، إن العمل يكون بذلك اللحمة الحقيقية للعلاقات الاجتماعية.
[2] استخدم ماركس هذا المفهوم في مخطوطات 1844 التي لم تنشر إلا خمسين سنة بعد وفاته، وألهمت عددا كبيرا من الفلاسفة والمفكرين. وقد قصد كارل ماركس بمفهوم الاستلاب التشويه العميق الذي يلحق العمل داخل نمط الإنتاج الرأسمالي. ففي ظل هذا النظام يكون العامل مستغلا، ولأنه يشعر بذلك فإن العمل يتوقف عن أن يكون أحد أسباب ومظاهر وجوده (أي الإنسان) ليصبح مجرد وسيلة عيش. ولمفهوم الاستلاب الذي استخدمه ماركس معنى قانوني، حيث يعني التنازل أو البيع للآخر شيئا نملكه. كما أن النعت اللاتيني alienus، وهو مصدر الكلمة، يعني الآخر أو الأجنبي، ومن هنا استعمال كلمة الاستلاب العقلي aliénation mentale للإشارة إلى شخص لم يعد يتحكم في نفسه وسلوكه، أي شخص أجنبي عن ذات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق