الجمعة، 10 أبريل 2009


الحرية
1- تحضير الأستاذ عبد القادر ملوك
2- تحضير جماعي
1 - إعداد الأستاذ: عبد القادر ملوك
مــقـدمــــة:
يعتبر مفهوم الحرية من اكثر المفردات اللغوية جمالية ووجدانية، لذا استحقت اتخاذها شعارا للحركات الثورية و قوى التحرر و الأحزاب السياسية و العديد من الدول و منظمات حقوق الإنسان في العالم، بوصفها قيمة إنسانية سامية تنطوي على مزيج من العناصر الأخلاقية والاجتماعية والوجدانية والجمالية. غير أنها من بين أكثر المصطلحات اللغوية والفلسفية إشكالية؛ فقد تعددت التعاريف الفلسفية التي أعطيت لها، إلى حد لا نكاد نقع فيه على تعريف جامع مانع لها. بيد أن فهمها و تحديد ماهيتها ليس بالأمر المستحيل إذا أمكنا لنا النفاد إلى العالم الذي توظف فيه، ألا و هو عالم الإنسان، باعتبارها حاجة إنسانية أصيلة و جزءا مكونا لشخصية كل إنسان، إن لم نقل أنها كل شخصيته. و كمحاولة منا للدخول إلى عالمها و الوقوف على ماهيتها، نقول أن الحرية تعني عند البعض غياب القيود و القدرة على فعل ما لا ينبغي فعله، و قد تعني مجرد الوعي بما يتحكم فينا من ضرورات و حتميات و أخدها بعين الاعتبار حين القيام بسلوك معين، كما قد تعني التحرر و الوعي بما يتحكم فينا و السعي إلى التحرر منه؛ ذلك أن سيادة هذا المفهوم في معناه الأول و الثاني، هو الذي يفسر الاعتقاد في تميز الظاهرة الإنسانية كيفيا(نوعيا) عن باقي الظواهر الطبيعية. و هو ما يفسر في نفس الوقت، رفض الانتقال بدراستها من المجال الفلسفي إلى المجال العلمي بفعل تفردها و خصوبتها و عدم قابليتها للتجريب عليها. و هي تبعا لذلك لا تخضع لقانون محدد أو حتمية مضبوطة.
و قبل أن نغوص في ثنايا هذا المفهوم، لا بأس أن نعرج على الفلسفة اليونانية - سيما و نحن نعالج مفهوم الحرية من الناحية الفلسفية- ثم نلقي الضوء، بعد ذلك، وبعجالة، على نفس المفهوم كما قاربه الفلاسفة المسلمون.
لقد تناول فلاسفة اليونان مفهوم الحرية بمعان مختلفة؛ فالسفسطائيون كانوا يعتبرون أن الإنسان الحر، هو الذي يسلك وفقا للطبيعة، أما غير الحر فهو من يخضع للقانون. أما سقراط - الذي فضل الموت على التنازل عن أفكاره و حريته، والذي قادته أفكاره و إيمانه بحرية التعبير إلى محاكمته المشهورة كما نعلم – فقد اعتبر أن الحرية تعني "فعل الأفضل" و هذا يفترض البحث، وبلا كلل، عن الأحسن، فاتخذت الحرية معنى التصميم الأخلاقي وفقا لمعايير الخير. و أما عند أفلاطون فتعني "وجود الخير" و الخير هو الفضيلة، والخير محض ويراد لذاته، و الحر هو الذي يتوجه فعله نحو الخير. و مع ظهور أرسطو سيبدأ المعنى الأدق للحرية في الظهور، إذ يربطها بالاختيار:
" إن الاختيار ليس عن المعرفة وحدها بل أيضا عن الإرادة ...و الاختيار هو اجتماع العقل مع الإرادة معا".
أما عند الفلاسفة المسلمين فقد ارتبط الحديث عن الحرية بالحديث عن القدر و "الجبر و الاختيار"، و فيما إذا كان الإنسان مخيرا أو مسيرا. و غير خاف، الحيز الذي أخده هذا الموضوع من نقاش الفرق الكلامية على اختلافها ( المعتزلة، الأشاعرة، المرجئة ...)و التي تراوحت آراء روادها، بين قائل بان الإنسان مجبر على أفعاله، و قائل بان الإنسان ليس مجبرا و بان له قوة و استطاعة، بها يفعل ما اختار فعله، وغيرها من المواقف التي دونتها لنا أقلام الأولين.
هكذا نستطيع الجزم بان مفهوم الحرية طرح و لازال يطرح صعوبات جمة أمام الفلاسفة حين محاولة تعريفه، إلا أننا سنحاول فيما سيأتي من محاور تقديم مواقف و إجابات البعض منهم عن الأسئلة التالية:
- أن نكون أحرارا هل معناه أن نفعل ما يحلو لنا؟ أم أن نتحرر من التبعية لقوانين الطبيعة؟
أم أن نتصرف وفقا للعقل أو ضده؟ هل معناه التحرر من قوانين الدولة أم الخضوع لها؟
- هل للحرية علاقة بالأخلاق أم أنها مستقلة عنها معارضة لها؟ ثم كيف تسمح القيم الأخلاقية بتحرر الإنسان و هي في ذاتها تقنين لتصرفاته؟
- ما علاقة الحرية بالإرادة؟ و هل يسمح العيش داخل جماعة (دولة) بالقول بحرية الفرد؟
1. الحرية والحتمية:
من البديهي أن الحديث عن الحرية لا يستقيم إلا بالحديث عن نقيضها، المتمثل في "الحتمية"، عملا بالقولة الشهيرة" الأشياء تعرف بأضدادها". لذلك سنحاول، بادئ ذي بدء، التعرف على هذا النقيض قبل بيان مواقف الفلاسفة بخصوص مفهوم الحرية.
لقد نشأ مفهوم الحتمية كنقيض لمفاهيم ومبادئ اعتقد أنها هي التي تحكم العالم، كالصدفة والعشوائية والفوضى وغياب النظام والاعتقاد في خضوع العالم إلى قوى غيبية لا سبيل إلى معرفتها أو التحكم فيها على الأقل( هو ما عبر عنه بالجبرية). ويقصد بالحتمية الاعتقاد بأن الظواهر تخضع في نشوئها وتطورها وزوالها، لعوامل مادية مضبوطة يمكن معرفتها والتحكم
فيها. وعلى أساس هذا المبدأ نشأ العلم وأمكن بالتالي تفسير عدد من الظواهر والتحكم فيها وتوقع حدوثها، وهو ما دفع كلود برنار إلى القول بـ "أن العلم حتمي وذلك بالبداهة، ولولاها لما أمكن أن يكون". فكان من الطبيعي أن يوجه تصور من هذا النوع، المحاولات الأولى لنقل الظاهرة الإنسانية، من حقل التناول الفلسفي إلى حقل التناول العلمي؛ فالفرد في مسار نموه وتطوره يخضع لحتميات يمكن معرفتها ومن تم التحكم فيها، وهو الرأي الذي اتفق عليه مجموعة من الفلاسفة والعلماء رغم اختلافهم في جزئياته، من بينهم جون واطسون،مؤسس المدرسة السلوكية، الذي اعتقد أن بإمكانه أن يصنع من الطفل الشخص الذي يريد. و سيجموند فرويد رائد التحليل النفسي الذي اعتبر أن الفرد يخضع لحتميات سيكولوجية، تتمثل في الأثر الحاسم للطفولة في تكوين الشخصية وتحديد استجاباتها في كل المراحل اللاحقة.
وهي أمثلة فقط قد نضيف إليها الموقف السوسيولوجي ومواقف أخرى، أجمعت جميعها على خضوع الفرد لحتميات تقوده – رغما عنه – في الحياة وتوجه سلوكه وتتحكم في إرادته. من هنا تأتي مشروعية استحضار المقاربة الفلسفية الرافضة لكل محاولات إخضاع الإنسان لمناهج لا تتلاءم مع خصوصيته،والداعية إلى النظر إليه في بعده الحي، المتغير، والمتجدد باستمرار.
لن نجزم بأننا سنتناول كل المواقف الفلسفية التي قاربت مفهوم الحرية في علاقتها بالحتمية، ولكن حسبنا أن نبرز آراء البعض منها، خصوصا الذين يحسب لهم إسهامهم الواضح في تناول هذا الموضوع أكثر من غيرهم، الأمر يتعلق بكل من ابن رشد ، سبينوزا، كانط و ميرلوبونتي.
يعتبر ما أتى به أبو الوليد ابن رشد، في معرض حديثه عن مسألة الجبر والاختيار، بمثابة حل، يروم فظ التشابك والاختلاف الذي كان السمة الطاغية على نقاش الفرق الكلامية، ويبين تهافت مواقفها التي تباينت بين الجبرية التي لم تكن ترى في الإنسان سوى كائنا مجبرا على أفعاله، والمعتزلة التي قالت بحريته وشددت عليها، وفرقة الاشاعرة التي جمعت بين الموقفين فيما عرف بنظرية "الكسب". وتكمن جدة موقف ابن رشد في إقراره بحرية الإنسان في إتيان أفعاله، خيرها وشرها وباقي الأضداد الأخرى، مع عدم نكرانه للحتمية التي تتجلى، في اعتقاده، في خضوع الإنسان لقوانين الطبيعة وقوى الجسد المخلوقان من طرف الله.
أما باروخ سبينوزا فيبدأ حديثه عن هذا الموضوع، برفضه التمييز بين الإرادة والعقل، معتبرا أن الإرادة ما هي إلا ميل العقل إلى قبول ما يروقه من المعاني، واستبعاد ما لا يروقه؛ فما يسمى بالفعل الإرادي هو فكرة تتبث نفسها أو تنفيها، وما يسمى بالتوقف عن الحكم هو حالة عدم إدراك الفكرة على نحو مطابق. وبما أن الأشياء، في اعتقاده دائما، معينة بما في الطبيعة الإلهية من ضرورة الوجود والفعل، لم يكن في الطبيعة ممكنات، ولم يكن في النفس إرادة حرة، فالنفس معينة إلى فعل معين بعلة، هي بدورها معينة بعلة وهكذا إلى غير نهاية. إن سبينوزا، بهذا المعنى، يعتبر الحرية، أو بالأحرى الشعور بالحرية مجرد خطأ ناشئ مما في غير المطابقة من نقص وغموض؛ فالناس يعتقدون أنهم أحرار لأنهم يجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما يظن الطفل الخائف انه حر في أن يهرب، ويظن السكران انه يصدر عن حرية تامة، فإذا ما تاب إلى رشده عرف خطأه. مضيفا أنه لو كان الحجر يفكر، لاعتقد بدوره أنه إنما يسقط إلى الأرض بإرادة حرة. وبذلك تكون الحرية الإنسانية خاضعة لمنطق الأسباب والمسببات الذي ليس سوى منطق الحتمية.
ينطلق ايمانويل كانط في معرض تناوله لمفهوم الحرية، من فكرة تبدو له من المسلمات والبديهيات، مفادها أن الحرية خاصية الموجودات العاقلة بالإجمال؛ فهذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحرية. غير أن أي محاولة من العقل لتفسير إمكان الحرية تبوء بالفشل، على اعتبار أنها معارضة لطبيعة العقل من حيث أن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس وأن الشعور الباطن لا يدرك سوى ظواهر معينة بسوابقها، وهذه المحاولة معارضة لطبيعة الحرية نفسها من حيث أن تفسيرها يعني ردها إلى شروط وهي علية غير مشروطة. كما ينص كانط على التعامل مع الإنسان باعتباره غاية، لا باعتباره وسيلة، ذلك لأن ما يعتبر غاية في ذاته ، هو كل ما يستمد قيمته من ذاته، ويستمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي يعني استقلال الإرادة. يقتضي هذا المبدأ بان يختار كل فرد بحرية الأهداف والغايات التي يريد تحقيقها بعيدا عن قانون التسلسل السببي الذي يتحكم في الظواهر الطبيعية.
أما إذا انتقلنا إلى نظرية موريس ميرلوبونتي في الحرية، فسنجد أن صاحب" فينومينولوجيا الإدراك"، يشترك مع غيره من فلاسفة الوجودية في القول بان الحرية هي صميم الوجود الإنساني، إلا انه يختلف عنهم في القول بان مجرد حضور الذات أمام نفسها ينطوي هو نفسه على الحرية، إذ أن الوعي ليس سوى تلك المقدرة على الإفلات من كل قيد أو حد، بمجرد التفكير في هذا القيد أو هذا الحد. فالذات تمتلك القدرة على أن تعلو بالفكر على كل قيود خارجية قد تتصور نفسها أسيرة لها. وتبعا لذلك فإن الوعي أو الشعور- فيما يقول – هو بطبيعته انفصال ومفارقة وحرية، لأنه ينطوي في صميمه على حركة مستمرة تنفصل فيها الذات عن الواقع، بفعل تلك الحرية، التي هي في جوهرها، قدرة مباشرة على التحرر من شتى الحدود والقيود. إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الإطار، هو أن ميرلوبونتي يرفض الحرية المطلقة، بل يعتبر أن الحرية التي تظل حرة بالضرورة، لا تفترق مطلقا عن الحتمية نفسها، مبررا قوله بأننا لو سلمنا بوجود مثل هذه الحرية فسيكون من العسير علينا أن نفهم معنى الالتزام engagement [ما نحققه في الحاضر لابد من أن يندرج في المستقبل محققا في الوقت نفسه شيئا يظل محفوظا، فإذا ما جاءت اللحظة التالية أفادت مما سبقها من لحظات].
ينحو بنا عبد الله العروي منحى آخر في مقاربته لهذا المفهوم، فالحرية في اعتقاده غير متعالية عن الواقع، كما اعتبرها البعض، بل محايثة له، اتخذت قديما طابعا بسيطا ومختزلا بحكم القيود والضوابط التي عرفتها الأشكال التقليدية للمجتمعات، والتي لم تكن تسمح سوى بهامش ضئيل من الحرية. أما في الآونة الراهنة فالحرية لم تعد معطى جاهزا يملكه الفرد مسبقا، بل هو عملية تحرير مستمرة، تحتك بعمليات تحريرية أخرى تخوض معها نفس التجربة لكن بأشكال مختلفة بحكم فرادة الذات وخصوصياتها.
2. الحرية والإرادة:
لقد سبق وأشرنا إلى أن الحرية حاجة فطرية لدى الإنسان، جوهرها الاتساق والتوازن الذاتي للشخصية الإنسانية؛ فالناس ولدوا من بطونهم أحرارا، لذا فهي ليست كسبا يحرزه المرء بجهده الخاص، وإن كان الحفاظ عليها يستدعي بذل قصارى الجهد لمواجهة التهديدات المستمرة الهادفة للنيل منها. وعليه فجميع الناس يدركون معنى الحرية، رغم تفاوت مقدار حيازتهم لها. وكلما تعمق وعيهم بها، ازدادوا نزوعا إليها، وذادوا عنها وضحوا في سبيلها. إن شعورنا بالحرية يبدأ منذ اللحظة التي نقدر فيها على الاختيار بين ما نريد ( الإرادة) وما لا نريد، فامتلاكنا القدرة على الاختيار بالقبول أو الرفض، يؤكد امتلاكنا للحرية. لكن هل يعني امتلاكنا للإرادة، أننا أحرار في تقرير شؤون الحياة المختلفة؟ وهل الإرادة شرط للحرية؟ ثم إلى أي حد تصدق مقولة سارتر"نحن مجبرون على الحرية" (رغما عن إرادتنا)؟
نبدأ الخوض في هذا الموضوع، بإدراج تصور فلسفي إسلامي يمثله أبو بكر محمد ابن باجة، الذي لم يشكل استثناءا للقاعدة، على اعتبار أن تناوله لمشكل الحرية يندرج، بدوره، في إطار مسألة الجبر والاختيار، التي كما اشرنا سابقا، شكلت موضوع نقاش الفلاسفة المسلمين بمختلف مشاربهم ومواقفهم. لقد ميز ابن باجة في أفعال الإنسان بين، تلك التي يختارها عن إرادة (الإرادة الكائنة عن روية)، وهو يسميها أفعالا إنسانية، لأنها خاضعة للفكر، يحركها ما يوجد في النفس من رأي أو اعتقاد، ويسبقها تدبير وترتيب، وبين الأفعال البهيمية التي يتقدمها في النفس، الانفعال النفساني فقط، بمعنى أنها مجرد ردود أفعال آلية ، ميكانيكية، خالية من كل تدبير مسبق، وغير مؤسسة على تفكير قبلي؛ فكسر إنسان لعود خدشه لمجرد أنه خدشه، يعتبر فعلا بهيميا. أما كسره لئلا يخدش غيره، أو عن روية توجب كسره، فذلك فعل إنساني.
بعيدا عن موقف ابن باجة، يمكن أن نقول أن ج. ب. سارتر هو فيلسوف الحرية بامتياز، وكيف لا وهو قد نصب نفسه منذ البداية خصما لذودا لكل لون من ألوان الجبرية. لقد رفض هذا الفيلسوف في كل من كتابيه " الوجود والعدم" و" نقد العقل الجدلي" شتى المحاولات المبذولة في سبيل الهبوط بالإنسان إلى المستوى البيولوجي الصرف. فالحرية هي نسيج الوجود الإنساني، والشرط الأول للعقل هو الحرية: "إن الإنسان حر، الإنسان حرية... الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا، محكوم عليه لأنه لم يخلق نفسه وهو مع ذلك حر لأنه متى ألقي به في العالم، فإنه يكون مسؤولا عن كل ما يفعله". هكذا يتحكم الإنسان –حسب سارتر- في ذاته وهويته وحياته، في ضوء ما يختاره لنفسه بإرادته ووفقا لإمكاناته.
مع فيلسوف ألمانيا الأشهر،إيمانويل كانط، سنتحدث عن اصطلاح، سلطان الإرادة، الذي هو المبدأ الأسمى للأخلاق،والذي يحافظ على كرامة الإنسان. فالإرادة هي مصدر الأمر الأخلاقي المطلق والإنسان الموجود في العالم العقلي، حيث أن إرادة الإنسان الموجود في العالم الحسي، تخضع لإرادة الإنسان الموجود في العالم العقلي، والذي هو في النهاية إنسان واحد. فصورة الحرية التي نستطيع أن نفكر فيها دون أن نعرفها، ليست فقط مما يتطلبه إحساسنا بالواجب، إذ تتمشى هذه الصورة مع سيطرة مبدأ السببية على العالم الظاهري. فالإنسان من حيث هو كائن ظاهري في ذاته، فإنه حر، فهو لا يستطيع أن يعرف ماذا تكون حريته تلك، بيد أنه يعلم أنه حر. إن إرادة حرة وخاضعة ،في نفس الوقت، للقانون الأخلاقي هي –في نظر كانط – شيء واحد.
إلا أن ما توصل إليه كانط، يزعم أرثور شوبنهاور أنه يستطيع تجاوزه والكشف عن الطبيعة الحقيقية للشيء في ذاته. فهو يعتقد عن طريق حدس مباشر أنه اخترق ستار الظواهر ووجد الشيء في ذاته. وهذا الشيء في ذاته هو الإرادة؛ فالحقيقة الواقعية النهائية ،هي الإرادة، لان الذهن ما هو إلا تجل للإرادة، التي تجعل نفسها متفردة ومختلفة فيك، وفي، وفي أشخاص آخرين منفصلين، وفي أشياء عالمنا الظاهر وفقا لمبدأ العلة الكافية. إن هذه الإرادة حرة، لأنه لا شيء يمكن أن يحدها أو يقيدها، ونحن في عالم الإرادة يطابق كل منا الآخر ويطابق الطبيعة بأسرها.
أما فريديريك نيتشه، الذي تأثر كثيرا بأفكار شوبنهاور- خصوصا في بداياته الأولى- فقد رفض الأحكام الأخلاقية النابعة من التعاليم المسيحية، معتبرا أنها سيئة وأنها أكدت، تأكيدا زائفا على الحب والشفقة والتعاطف، وأطاحت ،في المقابل، بالمثل والقيم اليونانية القديمة التي اعتبرها أكثر صدقا وأكثر تناسبا مع الإنسان الأعلى. فهذه الأخلاق – بالمعنى الأول – مفسدة تماما للإنسان الحديث الذي يجب أن يكون "روحا حرة" ويتبث وجوده ويعتمد على نفسه ويستجيب لإرادته. لقد ظل نيتشه، بوجه عام، يعتقد بان الحقيقة القصوى للعالم هي الإرادة، ومثله الأعلى الأخلاقي والاجتماعي هو " الرجل الأوربي" الجيد، الموهوب بروح حرة، والذي يتحرى الحقيقة بلا خوف، ويكشف عن الادعاءات الكاذبة والخرافات، ولذلك نجده قد أهدى كتابه "إنساني مفرط في الإنسانية" إلى ذكرى فولتير الذي رأى فيه نموذج الروح الحرة التي لا تقيدها عادات، ولا تسلك إلا وفق إرادتها الحرة. يقول صاحب " هكذا تكلم زاردشت" على لسان هذا الأخير: " حرا تسمي نفسك، أريد أن أسمع هاجسك المسيطر، لا أن تقول لي بأنك قد خلعت النير عن كاهلك، وهل أنت ممن يستحق أن يخلع النير عن كاهله، لأنهم كثر أولائك الذين فقدوا أي قيمة لهم عندما تحرروا من عبوديتهم".
من جهة أخرى، عمل ألكسيس دوطوكفيل على تتبع علاقة الحرية بالإرادة، في ظل مجتمع ديمقراطي ( المجتمع الأمريكي من خلال كتابه: الديمقراطية في أمريكا)، فتوصل إلى استنتاج في شكل سؤال نبلوره على الشكل التالي: هل تعني المساواة في الحقوق السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية... تحرر الإنسان وحصوله على حريته النابعة من إرادته؟
يعتبر دوطوكفيل أن المساواة تفضي إلى اتجاهين اثنين: إما الاستقلال المباشر للأفراد والذي قد تنجم عنه حالات من الفوضى، وإما أن يجد الأفراد أنفسهم –بعد مدة طويلة ورتيبة لكنها آمنة – يتجهون نحو العبودية، والتي هي عبودية لا تدرك بسهولة، ولكنها تعاش.
وقبل أن نترك دوطوكفيل الذي يعد مونتسكيو الثاني، لابأس أن نورد تعبيرا مجازيا له يشبه فيه الحرية بالهواء، يقول: " يظهر لي أن الحرية تشغل في عالم السياسة الموقع الذي يشغله الهواء في العالم" بمعنى أن الحرية هي هواء نتنفسه، وغيابها نحس به مثلما نحس بالاختناق عند نقص الهواء.
3. الحرية والقانون:
لما كان الإنسان قد ولد وله الحق الكامل في الحرية والتمتع بلا قيود بجميع حقوق ومزايا قانون الطبيعة ، في مساواة مع أي شخص آخر، فإن له بالطبيعة الحق، ليس في المحافظة على حريته هذه فحسب، بل أيضا في أن يحاكم الآخرين، إن هم قاموا بخرق هذا القانون ومعاقبتهم بما يعتقد أن جريمتهم تستحقه من عقاب. من هنا وُجد المجتمع السياسي، حيث تنازل كل فرد عن سلطته الطبيعية وسلمها إلى المجتمع في جميع الحالات التي لا ينكر عليه فيها حق الالتجاء إلى القانون الذي يضعه المجتمع لحمايته.
هكذا، وبعد أن كان الأفراد يحكمون على أفعالهم وسلوكاتهم حكما شخصيا، أصبح المجتمع هو الحكم الذي يحكم على أساس قواعد قائمة- قانون- تطبق على جميع الأطراف، فصرنا نتحدث منذئذ عن الحرية في إطار المسؤولية، أو عن الحرية المقننة، أي الخاضعة لترسانة من القوانين التي تبين الحدود التي لا ينبغي تجاوزها والمسالك التي يمكن للفرد أن يسلك وفقها، لذلك يحق لنا أن نتساءل:
- هل بإمكاننا الجمع بين الحرية، بما هي إرادة واختيار، والقانون، بما هو إلزام؟
- كيف نستسيغ أن يفقد الإنسان راضيا حريته المطلقة، ويقبل الخضوع لحكم القانون؟
- ثم ألا يمكن أن يعثر الإنسان داخل الحرية المقننة، على ما هو أفضل له من العيش داخل الحرية المطلقة؟
لا يعول صاحب " اللوفياتان" ، توماس هوبس، كثيرا على القانون، فهو يعتقد أن كينونة الحرية في الإنسان هي الدافع أساسي لإعمال حريته وليس القانون، مضيفا أنه إذا لم يكن الإنسان حرا بحق وحقيقة، فليس هناك موضع للإدعاء بأن هذا الإنسان يكون حرا فقط عندما يكون تحت نظام قانوني معين... إذ تبقى الحرية عند هوبس نصا يمتلك معنى واسعا، ولكنه مشروط بعدم وجود موانع لإحراز ما يرغب فيه الإنسان، فالإرادة أو الرغبة لوحدها لا تكفي لإطلاق معنى الحرية. وهوبس كغيره من رواد الفكر السياسي الغربي، يؤمن بأن حرية الإنسان تنتهي عند حرية الآخرين، فقد رفض الحرية الزائدة غير المقيدة، إذ أكد بأن الحرية ليست الحرية الحقيقية لأنها خارجة عن السيطرة، بالأحرى سيكون الإنسان مستعبدا من خلال سيادة حالة من الخوف المطرد المستمر. إن المصالح الشخصية الخاصة وحتى الحياة نفسها ستكون عرضة للرعب والذعر، من قبل الآخرين أثناء إعمالهم لحرياتهم. فالحرية المطلقة تقود إلى فقدان مطلق للحرية الحقيقية.
غير بعيد عما توصل إليه هوبس، يعرف مونتسكيو الحرية بقوله: " أن يقدر المرء على أن يعمل ما ينبغي عليه أن يريد، وألا يكره على عمل ما لا ينبغي أن يريد". هي الحق في أن يعمل المرء ما تجيزه القوانين العادلة، فإذا كان للمواطن أن يعمل ما ينهى عنه، كان لغيره نفس هذا الحق، فتتلاشى الحرية. يربط مونتسكيو إذن الحرية بالقانون، وهو ربط نابع من خلفيته القانونية، بحكم أنه مؤلف كتاب " روح القوانين" الذي كان له تأثير غير قليل في تطور دستور فرنسا، وقد اشتهر عنه قوله، أن المملكة التي توجدها الحرب، تحتاج إلى حرب لتحافظ على كيانها. فالحرية بهذا المعنى ستظل محافظة على تعريفها القديم المتمثل في أن يفعل الإنسان ما يشاء وأن يستجيب لنداءاته الداخلية الحرة، مع تذكيره بدون انقطاع بألا يخرج فعله هذا عن الإطار القانوني للدولة. ان موقف مونتسكيو هذا سيلاقي دعما ومساندة من طرف بنيامين كونستانت الذي يعتبر بأن الحرية هي الاستمتاع الهادئ بالاستقلال الفردي، فالكل يحلم بحرية هادئة بعيدة عن المصاعب والمشاق، لكن المصاعب هي جزء من الحياة وتكوينها، لأننا لا نعرف قيمة الحرية إذا لم نضعها فوق المحك، وكونستانت وضع بالفعل حريته في المحك، حينما نفاه نابليون بونابرت أحد عشر عاما، جراء معارضته لتصرفاته. فهو رغم إشادته بوجود قانون ينظم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع، رفض أن يصبح هذا القانون نفسه أداة في يد واحدة، تتصرف فيه وفق ميولاتها ونزواتها الخاصة دونما اكتراث بمطالب وآراء أفراد الشعب أو من ينوب عنهم.
أما المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي، فلن يتناول مفهوم الحرية بشكل نظري صرف، بل سيحاول البحث عن تجليات وتمظهرات هذا المفهوم داخل المجتمع وداخل الحياة السياسية، مميزا بين الأشكال التقليدية التي كانت تسمح بنوع محدود من التحرر بفعل الحواجز التي كانت تجابه بها الفرد أينما حل وارتحل، والتي هي من نوع عائلي أو طائفي أو قانوني أو شرعي، وإذا حاول تخطي أي من هذه الحواجز، واجه صراعا قلما يخرج منه سالما مع ممثلي كل نوع من أنواع الحواجز المذكورة. أما الأشكال الحديثة للفعل الحر فهي تتخذ طابع عملية تحرير مستمرة تدخل في صراعات متعددة مع كل الهيئات التي تمثل القانون، ينتج عنه تقلص أو تمدد لحرية الفرد. فالحرية حسب العروي مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بمستوى تقدم الطبقة أو المجتمع الذي ينتمي إليه الفرد. من جهة أخرى يعتبر صاحب " مفهوم العقل" أن الحديث عن الحرية لا يستقيم خارج إطار الدولة التي تنصب نفسها كضامن لحريات أفرادها، وهي نقطة يلتقي فيها مع هيغل الذي اعتبر الدولة أداة لعقلنة المجتمع وإحدى أبرز تجليات تحقق العقل في التاريخ.
وفي ارتباط بالممارسة السياسية، التي يتجسد فيها مفهوم الحرية بشكل أوضح، تحاول حنا أردنت تأسيس الحرية، في إطار قانوني ينظم العلاقات بين الحاكم والمحكومين وتجنب الخوض في هذا المفهوم باعتباره مسألة باطنية. ذلك أن اعتبار الحرية حقا يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسي وقوانين ينظمان هذه الحرية، ويحددان مجال تعايش الحريات. أما الحديث عن حرية داخلية، فهو حديث ملتبس وغير واضح. إن الحرية، حسب أرندت، مجالها الحقيقي والوحيد هو المجال السياسي، لما يوفره من إمكانات الفعل والكلام، والحرية بطبعها لا تمارس بشكل فعلي وملموس، إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين، إن على مستوى التنقل أو التعبير أو غيرها، فتلك هي إذن الحرية الحقيقية والفعلية في اعتقاد صاحبة " وضع الإنسان المعاصر".
خاتمة:
يبدو لنا ، من كل ما تقدم على أن مفهوم الحرية مفهوم زئبقي، كلما اعتقدنا أننا قبضنا عليه، يعود ليفلت من جديد ، فإذا كنا نتفق مع جول لكي، على أن الحرية هي القدرة على التصرف بأفكارنا وسلكها في نظام غير محتوم، و أنها هي الحقيقة الأولى السابقة على كل حقيقة، فإننا نتفق أكثر مع ميرلوبونتي الذي يرى بأن هناك تفاعلا مستمرا وتداخلا متصلا، بين الذات التي تتصرف من جهة وبين المواقف – أو الظروف- التي تجد نفسها إزاءها من جهة أخرى. وقد يستحيل في بعض الأحيان أن نحد نصيب الحرية ونصيب الظروف في كل فعل من الأفعال التي تقوم بها الذات الإنسانية. فالحرية الإنسانية، في اعتقاده كما في اعتقادنا، ليست حرية مطلقة، بل هي دائما حرية مجاهدة liberté militante .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق